لؤلؤة الميدان الشهيد علي المؤمن
بقلم علي أحمد الديري
في الخامسة والنصف تقريباً، خطّ علي أحمد المؤمن مشاركته الأخيرة في صفحة الـ"فايسبوك" وقال: "دمي فداء لوطني". مشاركته هذه، تحولت بعد ساعات قليلة حقيقة صعقت أباه وأمه وإخوته الستة، حينما تلقّوا خبر استشهاده. كان علي يدرس الهندسة في جامعة البحرين طالباً في السنة الاخيرة. في ذلك اليوم كان مع أحد إخوته في ميدان اللؤلؤ نائماً، وعاد سالماً الى البيت بعدما هجمت قوات الأمن على المتظاهرين ليعود الى الدوّار مجدداً ويستقبل جسمه الطلقات المطاطية ورصاص الشوزن المحرّم دوليا، فيموت متأثراً بجروحه وقد علم أبوه وأمّه وإخوته بمصرعه من طريق إحدى القنوات الفضائية.
1
[color=red]كان الخميس 17 فبراير يومين لا يوماً واحداً. يوم ما قبل الثالثة فجراً ويوم ما بعد الثالثة. يفصل بينهما رصاص الجيش، الذي نجح في مهمته المستحيلة، فجعل لنا يوماً آخر لا ينُسى. فما أعظمك أيها الجيش الخلاّق في مهمتك المستحيلة، حين جعلت نهارنا طويلاً طويلاً. بفضلك دخلتُ، أنا الذي اعتدت رائحة الأوراق والكتب لا رائحة القتلى، مشرحة الموتى. إنها المرة الأولى أدخل فيها غرفة الموتى. دخلتُ كي أصدّق أنك قمت فعلاً بمهمتك المستحيلة. رأيتُ إنجازك العظيم مكتوباً على أجساد الشهداء، ورأيتُ أكثر مما رأته آلتك العمياء، رأيتُ كم أنك عارٍ من الوطن وعارٌ على الوطن.
لقد أتحتَ لي أيها الجيش الثقيل أن أرى وجه الشهيد الشاب المهندس علي المؤمن (22 عاماً) معلّقاً فوق جدار الشهادة الافتراضي حين فتحت صفحته على الـ"فايسبوك". لم أره لحظة ذهبتُ ظهراً الى المشرحة، فقد استعصت ندوبه على خيوط الجرّاحين، فبقوا ينسجونها ويرقعونها حتى المساء. دماؤه كانت تأبى التوقف. ربما كان أكبر من أن أراه هناك في مشرحة الموتى.[/
color]2
فتحتُ جدار صفحته في الـ"فايسبوك". لم أكن أعرفه، لكن ضوء صورته اخترق كل حواسي كما لم تفعل وجوه الأجساد في المشرحة. بقيت متسمراً أمام صورته، ووجدت هناك في عمقها شيئاً يناديني لأكتبه.
في محاولة عبثية طلبتُ منك يا علي إضافتي على صفحتك. في محاولة أكثر عبثاً رحتُ أنتظر أن تقبلني، وأعيد تنشيط الصفحة قائلاً لعله يفعلها، أو لعل شيئاً خارقاً يفعلها. كنت لأقول لك: أريد أن أكتب عن ضوئك الخاص الذي شدّني إليك. امنحني شيئاً من سيرتك لأفتح به كتابتي. عندما تمنعتَ عن أن تجيبني، أرسلتُ الى صديقك علي هاشم الذي اكتشفتُ أنه في قائمتي، أن يرسل اليَّ ما يشرح حيرة تعلّق مخيلتي بصورتك. فضولي لم يحتمل أن أنتظر. رحت أبحث عنك في هذه الشبكة العنكبوتية التي صارت مقبرة لمن يظنون أنهم يمسكون بكلّ الخيوط، وأنهم خالدون في أعشاش كراسيهم. وجدتك في الـ"يوتيوب" حياً مفعماً بالحركة، تقدم ورشة لأناسك البسطاء الطيبين من أهل منطقتك، ضمن برنامج "أنا أتطور". هل كنت تعي إلامَ يؤول تطورك؟
لم تكن تعرف أنك ستدخل في ورشة أكبر، ورشة في حجم الوطن، ستقودها بهؤلاء الناس البسطاء الذين يحلمون بكرامة المواطنة لا كرامة المكارم، بهؤلاء الناس الذين حملوا يوماً ما زائراً كان يرسل إليهم من يحمل أبناءهم إلى الظلام، ويعدهم بالأيام التي لم يعيشوها بعد. كان يوم جنازتك منها.
3
في الموكب المهيب الذي حملتنا أنت إليه، يوم جنازتك، كان علم الوطن يلفّ جسدك الغض الطري، وكان الشبان المحيطون بتابوتك يلوّحون بأعلام الوطن، يضمدون بها جروحك وجروح الآلاف التي حملت أكفُّها روحك. ما أجملهم وأبهاهم. حناجرهم الغاضبة من عناكب الوطن، لم تفقد لحظة ثقتها في الوطن. كانوا يتلحّفون به، ويلوّحون به، ويقودون به، ويفتحون الميادين به، ويموتون دونه. موجعةً كانت تلك اللحظة التي توقّف فيها موكبك، ليلبّي مطلب والدتك المفجوعة بزهرتك. كان مطلبها أن ننشد "يمة ذكريني من تمر زفة شباب... من العرس محروم وحنتي دم المصاب شمعة شبابي من يطفوها... حنتي دمي والكفن دار التراب".4
هل تعرف يا علي أننا هذا المساء في اليوم الثالث من زهرتك، لم نكسر فاتحتك بل كسرنا طوق الميدان. هناك في المكان الذي اغتالتك فيه جيوش الغدر، قرأنا لروحك الفاتحة، لتكون فاتحة عودتنا الى الميدان. بك يا علي وسّعنا ميدان اللؤلؤة، صار أكبر من ذلك المساء الذي وقفتَ فيه عارياً تحميه من غدر السلطة. لقد وسّعناه بدمكَ الحر. صار غالياً، ثمنه ليس دمكَ فقط بل حلمكَ أيضا. ألم تكن تحلم في ذلك الفجر الغادر بأن شمساً جديدة ستشرق على هذا الميدان؟ ألم تكن تتطلع إلى أفق يأتي لنا بمستقبل جديد؟ لقد فاجأك رصاص العسكر،. اغتالتك أرتالهم. لكن اطمئن. لم يغتالوا حلمك بميدان الحرية. بقيت اللؤلؤة في قلوبنا، نحنو عليها من آلات العسكر. لقد زرعوا في قلبك رصاصة لكنها لم تصل الى اللؤلؤة التي كنت تخبّئها، ولم يكونوا يدركون أنك ستغدو لؤلؤة للميدان.
نحن في الليلة الأولى الآن من عودتنا الى الميدان الذي لم تغادره أنت. عدنا اليك، وعدنا بك. عدنا اليك لأنك صرت جوهرة الميدان. وعدنا بك لأنك تلاحقنا في أحلامنا، وتدفعنا نحو الميدان. في كل شاب وجدتكَ. لقد اشتقّوا من اسمك أيها المؤمن إيمانهم بأنهم سيعودون. الكبار لم يكونوا يؤمنون، لقد زرعتَ أنتَ ورفاقكَ فيهم هذا الإيمان، فأعدتهم إلى دين الحرية.
5
لم تهدِ الينا دمك وحده، بل أهديتَ الينا جوهرة نفسك في صدفة وطنية (دمي فداء لوطني). تركتها على الـ"فايسبوك"، معلّقة هناك كوصية على جدار، صارت كل الثورات تكتب حريتها عليه. أمست وصيتك شعاراً نعلّق عليه مستقبلنا. كان ثوار التسعينات يكتبون شعاراتهم على الجدارن العتيقة، ويأتي في الصباح من يمحوها كي لا تشعل ثورة. جدارك الافتراضي اليوم عصيّ على المحو، عصيّ على الحجب، عصيّ على الجغرافيا والتاريخ. عابر لكل الأشياء. جداركَ يا علي، وطننا الذي افتديته بحقّ.
صار شعاركَ أغنية الميدان، وقد رقصت أجساد الشباب العارية في اليوم التالي لرقصة جسدك. رقصوا أمام مدرعات الجيش وعلى مقربة من التراب الذي تقدّس بأنفاسك الأخيرة. رقصوا فداء، وهم يقرأون نوتة الشهادة، "دمي فداء لوطني"، التي علّقتها على جداركَ. صفّق لهم الرصاص الحيّ، صفّق في أجسادهم المنتشية طرباً، واختار الرصاص المواضع الأكثر فرحاً في أجسادهم. أحدهم اختار الرأس منه، لأنه كان يهتف بالحرية، واختار القدم من أحدهم لأنه كان يشقّ طريقاً الى اللؤلؤة، لؤلؤة الحرية البيضاء المعلّقة في الميدان، وتحيّر في البقية، كيف يهزمها وهي تحمل شعاركَ وشعورك، فانهزم أمامها.
6
رحت أتعقبكَ في سيرة جنة أصدقائك، لعلّي أعرف سرّ غرامي بك. في رواية أصدقائك استطعت أن أفسر شيئا من هذا الغرام الذي جعلني أدخل صورتكَ. فقد وجدت في صورتكَ صورتي في أوائل التسعينات، فتى مثالياً يريد تغيير العالم، مؤمناً بأن لا مسافة بين ما يقرأ وما يعيش.
يقول صديقك حسين الحواج: علي شخصية استثنائية وانضباطية وإلهامية وشفافة، مفتوح على المختلفين وتشبكه علاقات تتعالى على الجروح والفروق مع الطوائف الأخرى، يقرأ بشغف كبير لعلي شريعتي ومرتضى مطهري، يجمع أطرافاً مختلفي الأمزجة من الأصدقاء يوحدهم في قلبه، ويمنحهم من دفئه.
صديقك علي البناء، رافقك في رحلة الميدان، كان يحدثك عن فقه الشهادة قبل أن يمنحك درساً تطبيقيا في اليوم التالي. يقول علي لقد فهمت درس الشهادة تماماً، فهمت كيف تكون مهيأ له وكيف تجعله قصة مشوقة.
***
هذا ما فعله علي، لقد وصل إلى مستشفى السلمانية سالماً بعدما تمكن من النجاة من المجزرة الأولى، لكن نداء الشهادة كان يشتغل في داخله ويدفعه نحو الميدان. عاد إلى الميدان في السابعة صباحاً برفقة المسعفين من الطواقم الطبية. كانت حركته في الإسعاف لافتة ومستبسلة للشهادة، وهذا ما أثار حنق القتلة، ليمعنوا في تشويه جسده الغض برصاص الشوزن والمطاط. لقد تهتك جسده، لكني أجزم أن قلبه لو عاد فسيكون قادرا على أن يغفر لهاتيكه، فداء للوطن